الغباوة

                                        الغباوة

      يقول الرسام دالي:" إن أردت أن تكون رساما جيدا ، يجب عليك أن تكون غبيا بعض الشيء ". وخبرة السنين تجعلك تقول :" إن أردت أن تكون محبا جيدا ، يجب أن تكون غبيا في كثير من الأحيان ." لا لشيء إلا لأنك إذا لم تتظاهر بنوع من الغباوة في مواقف كثيرة ، وخصوصا أمام من تحب تجد نفسك معرضا لمواجهة ربما تؤدي إلى ما لا تحمد عقباه ، بسبب تصرف بدر منك ، إما عن قصد أو غير قصد ، أو زلة لسان لا تعبر عن مكنون القلب .
       تظاهر صاحبنا بالغباء ، فأصبح عرضة القيل والقال ، وتعرض لأصناف التأنيب والعتاب في كثير من الأحيان من الأهل والخلان . لقب بأنواع النعوت المشينة من قبيل :" التابع للمتبوع " ، الجار للمجرور "، " المضبوع "....
      أصبح بعاني ويكابد ، وهو يلعب هذا الدور فوق خشبة مسرح الحياة ، في فضاء يسع الكون كله ، مدة عرضه لهذا الدور محدود بما كتبه له الله من عيش على هذه البسيطة إلى أن يحين أجله . جمهوره منقسم ما بين معجب ومنبهر وساخط . إن أحسن إتقان دوره نال الثناء والتشجيع والتصفيق عن كل لقطة تفنن في تمثيلها ، وإن فشل في دوره فبعد إسدال الستار عن آخر لقطة ، تشحذ السكاكين لذبح الثور المسكين ، وإن حظي بنوع من الشفقة والعطف تجمع أنواع مختلفة من الحجارة لرجمه بدعوى أنه قام بدوره خارج الإطار ، وأن موضوع مسرحيته لا تمت للواقع بصلة بحال من الأحوال ، ولا علاقة لها بسياسة اجتماعية تدجينية مبرمجة بإحكام .
      كثيرة هي الأمور التي يتوهم الانسان أنه مدركها ، ويسقط أحكاما في غير محلها ، فيترك لعواطفه قبل لسانه العنان لتحوم في أجواء من الفجور والنوايا السيئة ، فتهتز كبرياؤه ، وتنحط قيمته أمام الآخرين ، وخاصة أمام من يتوسم فيهم الخير والمحبة والفهم . فتسمع من أعماق هذا المتهم البريء هاجسا يخاطب هذا المتطاول قائلا :" أيها الفاجر الحقير ، لا تدعي النبوة فقد ادعاها قبلك مسيلمة الكذاب . لا تدعي العفاف والطهر ، فتصرفاتك تظهرك على حقيقتك . التمس الأعذار وقتما شئت ، فلن تغفر لك الأيام أنك كنت في فترة من الفترات خسيسا وشيطان . لا تصدر الآحكام تلو الأحكام بدون حجة وبيان ، وتطلق للسانك العنان ليكشف عما في قلبك من أحقاد ."
        اعلم أيها المتطاول ، الخائض في أعراض الناس أن الحياة مدرسة أبوابها مشرعة في وجه كل طالب مجد مكافح ، راغب في الارتواء من معين أساتذتها الأجلاء الأيام والسنون . موصدة في وجه كل مغتر متعجرف ، يعتقد أنه صبر أغوارها ، وفقه معنى الحياة الحقيقية في تجلياتها  بسلبياتها وإيجابياتها  ، فتكذبه صروف الدهر ونوائبه من حيث لا يحتسب . فلماذا لا نعتبر ؟

          كثير منا يعيش وسط المروج الغناء ونفسيته صحراء قاحلة كلها زوابع ، نهارها حر ، وليلها قر ، وقلبه جلاميد لا تقوى عوامل التعرية على تفكيكها و تحللها . فلا العيش يحلو له ولا الحياة يستلذ نعيمها . والقليل منا حول أرضه الجرداء إلى روضة غناء تفوح منها الروائح الزكية ، متمتعا بصفوها ، ومتحايلا على عوائقها . والقلة القليلة راضية بما كتبه الله لها تعيش في بحبوحة الإيمان والتقوى ، والعفاف والكفاف والقناعة " فتعمل لدنياها كأنها تعيش أبدا وتعمل لآخرتها كأنها تموت غدا " فتربح الدنيا والآخرة .

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الأمثال الشعبية

الامثال الشعبية الباقة الثالثة

سداسيات 62